وصف غرفة في مكتبة
ليست الجامعة منهل علم لطلبتها فحسبُ, بل هي مهبط وحي لي حين إبلغها قبل ابتداء الدرس الذي أبتغي حضوره بدقائق أقضيها منتظرة متأملة.
فكم من فكر إنساني ما يحيط بي من آثار الحياة! وكم من تأمل التقط موضوعه نظرى بين وريقات شجرة خضراء تتمايلُ أمام النافذة! وكم من حلم لمحت خطوطه مرسومة في جوّ قاعة الدرس وألوانه متخللة خيوط الأشعة المطلة علينا! أفكار وتأملات وأحلام رفرفتْ عليَّ حينًا وغنَّت في نفسي كالأطيار, ثم فتحت جناحها الذهبي ساعة جاء الدرس ينبهي - فتحت جناحها وانطلقت تعدو إلى آفاق قصيّة أجهلها وأحبها لأن لي فيها أطيارًا خياليّة.
أنا الآن في غرفة صغيرة تابعة لمكتبة الجامعة, وليس في هذه الغرفة من الكتب إِلاّ ثلاثة أجهل اسمها ولغتها لأنها خفيت تحت كتاب رابع من تأليف مارمونتل. وهذا أديب فرنسوي لم يتفوق في موضوع من الموضوعات الكثيرة التي عالجها, بل اكتفى بالإجادة فيها جميعًا إِجادة معتدلة, تاركًا البراعة والتفوق لأستاذيهما الكبيرين: فولتر وروسو. روسو الذي حاول تكوين مجتمع جديد بقلمه القادر البليغ وملأ العالم ندبًا ورثاء. وفولتر الذي كافح القيود الدهرية برأس قلمه الرشيق النافذ كالسهم إلى أعماق الأفكار, وبابتسامته الخالدة التي يرى فيها أتباعُه فجرَ الحرية المنبثق من ليل العبودية الأليل.
إن للأمكنة أرواحًا, وفي هذه الغرفة الصغيرة روح تناجيني وسرٌّ أطمع في اجتلاء غوامضه. كلّ ما يحيطُ بنا في الحياة سرٌّ ولغزٌ لكنَّ حواسنا المثقلة بأحمال المادة تحجبُ عنا الأنوار, فلا نرى للأشياء وجودًا ولا ندركُ لها حقيقة إِلاّ بقدر ما تنفقُ معانيها مع أطماعنا وشواغلنا.
كلما رأيتنى وحدي في هذه الغرفة شعرتُ بأن في جوّها روحًا. أهي مجموع أرواح النوابغ الحاضرين بنا برسومهم وبخيالات الأفكار المطلة من أحداقهم?
نهضتُ أمشي في الغرفة, أمشي وأفكر. وراء الطاولة التي أكتبُ عليها صورةُ سفينةٍ ركبت من البحر جواداً حرونًا وسارت تقطعُ الأمواج الكبار بقوةٍ وثبات. وتحت السفينة إطار حوى ورقة ممزقة وفيها بعض السطور الهيرغليفية.
الكتابة الهيرغليفية قرب الباخرة! إن جوار هذين الرسمين لرمزيٌّ: السفينة فينيقيا والخط الهيرغليفي مصر.
فينيقيا ومصر!
المدنيتان القديمتان اللتان بزغت منهما مدنيّاتنا الحديثة وانحدرت من ذراريهما تواريخ ذرارينا! ترى هل وقفنا على جميع ما فيهما من الأسرار وعرفنا كل ما كان عندهما من علم وفن ومقدرة وسلطان? أم نحن في ذلك مدّعون دعوانا في سائر أقسام المعرفة?
قبل أن يكتشف كولمبس القارة الأمريكية بقرون طويلات كانت سفن الفينيقيين تضربُ في البحر طولاً وعرضًا وقد عيّن التاريخ خطوط رحلاتها, ولكن أيُّ شيء أجهل من العلم إِن لم يكن التاريخ? ومن يدرينا ما إِذا كانت اليد التي شادت الأهرام وأقامت الهياكل المتراكمة اليوم بقاياها على رمال النيل, هي غير اليد التي أوجدت هياكل, تُري الآن أنقاضها في أواسط أمريكا, ونحتت ما عثر عليه لورد دوفرن من مسلات مصرية ونقوش شرقية في كولمبيا البريطانية?
والتليفون الذي أراه في زاوية الغرفة على مقربة من الكرة الأرضية أهو اختراع هذا العصر فحسبُ? ألم تكن من نوعه الآلة التي يقال إنها كانت مستعملة عند كهنة إِيزيس وأوزريس لمخاطبة كهنة الهياكل الأخرى من أقصى البلاد إِلي أقصاها خلال الاحتفالات السنوية الكبرى والاجتماعات الدينية? ولماذا لا يقوى العلم الحديث على استخراج الأرجوان من الأصداف كما كان يفعل الفينيقيون? لماذا لا يُخرج لنا ألوانًا ثابتة لا تنفض نضارتها كألوان هياكل الأقصر?
أكان أجدادنا جاهلين أم نحن لهم ظالمون? أم كل الفرق في أن العلم كان عندهم محصورًا ضمن الأقلية المنتخبة وقد أصبح في زماننا (حصة من جدَّ اعتزامًا)?
ولكن لنتابعن سيرنا في الغرفة:
في منتصف الجدار إِلي اليمين صورة هوغو في شيخوخته ويده تحمل جبهته المثقلة بالأفكار العظيمة. كأنما هو في جلوسه يناجى الأجيال قائلاً: ها أنا ذا! أنا هوغو الذي أنالته الحياة مجدًا وثروة وحبّا. أنا ذاك الذي شاخ في المنفى فكان سعيدًا في الشقاء. أنا ذاك الذي بحث عن نوابغ الماضي ودوّن أسماءهم تاركًا بعدها مكانًا واسعًا لاسم جديد. والاسم الذي أعني إِنما هو اسم الرجل الجالس هنا حاملاً على يده جبهته المثقلة بالأفكار العظيمة: فيكتور هوغو!
وإِلي شمال هوغو أرى الفيلسوف الرياضي ديكارت الذي قال فولتير في وصفه إنه جعل العميان يبصرون, إِذ بيَّن للقرن السابع عشر أغلاط القرون الخاليات وجعل شعاره هذه الجملة: (لتبلغ الحقيقة يجب أن تنسي مرة في حياتك جميع الآراء والاعتقادات التي شببتَ عليها, ثم تقيم أسسًا جديدة لآراء واعتقادات شخصية).
إِلي شمال ديكارت أرى بوسويه أسقف (موو). ترى بأي شيء يسرُّ ديكارت إِلى بوسويه في ساعات الوحدة? وبماذا يجيب الأسقف الكاثوليكي? ليت لي من سبيل إِلي التجرد من جسدي حينًا لأسمع محاوراتهما ولو مرة واحدة, ولأعلم كيف يتناقش العلم والدين في عالم الأرواح.
على يمين هوغو موليير الشاعر الفذُّ الذي ملأ رواياته, وراء لهجة الاستخفاف والظرف والتنكيت, انتقادات اجتماعية وعلمية ودينية, وعلَّم أهل زمانه الضحك من أنفسهم غير متذمرين.
وعلى يمين موليير وجهٌ نحيف جذاب. من هذا? لو نسي مصوّرك كتابة اسمك تحت رسمك, لو دُرِسَتْ آثار فكرك وعلمك وانتقادك وطمسَ الزمان كل ما أيده قلمك, لو أكلتْ النار وجهك غير مبقية إِلاّ على شفتيك لعرفتك يا فولتير! يا لفمك من فم هائل في كلامه, هائل في بسمته, هائل في سكوته حتى في سكوت الصور!
تحت هوغو إِطار ذو رسمين يمثل أحدهما راسين والآخر بوالو. ولو أنصفت الجامعة لوضعت راسين فوق هوغو وأقصت النَّظام بوالو عن الشاعرين, لكني أفهم أن صورة هوغو عندها أكبر من صورة راسين. كذلك تسير مواكب الحياة! فكثيرًا ما يقطن الأكبر تحت الكبير ويقف الأحسن دون الحسن, ولكلٍّ أن يرضي بما قُسم له لأن الزمان شاء ومشيئته لا تتغير!
من زاوية فولتير إلى الباب تمتدُّ مكتبة صغيرة خالية مما وُجدت له, تتجلى فوقها صورة امرأة عظيمة: مدام ده سفينيه! كم تسرني رؤية هذه المرأة قرب هؤلاء الرجال! كأن وجودها هنا عنوان اهتمام الجامعة بالفتيان والفتيات على السواء, كأن صورتها على هذا الجدار صوت يستحث الفكر النسائي قائلاً: إِلي الأمام!
على الجدار المقابل لجدار فولتير صورة فنيلون (أسقف كمبرى) مؤلف كتاب (تليماك) المفعم بالانتقاد الدقيق الخفي لحكومة لويس الرابع عشر وللملك العظيم نفسه. وإِلي جانبه معاصره الشهير كورنيل واضع الروايات البديعات اللائى ما برحن ميدانًا, فيه الحب والواجب يتنازعان.
وعند الباب هيكل عظام بشري إِلاّ أنه صُنع من خشب الجوز أو من خشب آخر دُهن بهذا اللون. كل ما هنا يساعد ما في جوارهِ لجعل هذه الغرفة كبيرة في صغرها, عظيمة في سذاجتها.
صدق القائل إن للغرف أرواحًا...
أحب روح هذه الغرفة الممزوجة من أرواحٍ شتى!
لو تكلَّمت الجدران لكانت أتمَّ منكما بلاغةً وأعمق تأثيرًا!
من كتاب ( سوانح فتاة ) , 1922