المواكب
اقترحت عليّ مجلة (الهلال) كتابة فصلٍ عن (المواكب) وإنى لأجدُ مشقةً في تلبيةِ كلَّ اقتراح لأنه يذكِّرني نوعًا بالفروض المدرسية التي يقيَّد التلاميذ بموضوعاتها المعيَّنة, وإن لم يكونوا بالأفكار وبأسلوب إيرادها, مقيَّدين. ومؤلف (المواكب) من الكتَّاب الذين أفضِّل على البحثِ في مواهبهم الوقوفَ على رأى الغير فيهم, مؤثرةً على هذا وذاك تصفُّح ما تخطّهُ أقلامهم.
- ما في مقدوري لا يتعدّى الاغتباط بالنظر إلى المعاني وإِلي كيفية التصرّف بها, كأحد غواة الفن Amateur. على أن هذا النظر البسيط لا يتفق مع نظر الآخرين إِلاَّ إلى حدٍّ يصبحُ عندهُ مخالفًا لرأي كل من عرفوا جبران خليل جبران مفكرًا. وكأني بهؤلاء قد أقاموا عنهم نائبًا ينطق بلسانهم في شخص نسيب أفندي عريضه الذي وضع (للمواكب) مقدمة دلّت على ما عنده من فكرٍ دقيق وفؤادٍ طروب.
فنسيب أفندي يخبرنا بأن مؤلف (المواكب) كان متمرِّداً في كل حياته الكتابية; (يعرف ذلك من طالع كتبه وأهمها (الأرواح المتمرّدة) و(الأجنحة المتكسرة); فهو يقفُ وأبطاله وبطلاته متمردين لا على عدوٍّ ظاهرٍ حقير بل على الحياة نفسها). لم أفهم جيدًا ماذا يقصد بالتمرُّد (على الحياة نفسها). وأي حياةٍ هي (نفس الحياة) في نظر صاحب المقدمة? أحياةُ المدنيةِ التي يعبدها جبران أفندي وإِن أزعجه ما فيها من سخافة, وهو لا يشبعها هجوًا وتقريعًا إِلاّ لأنه يعبدها? أم حياة الطبيعة التي يؤلِّهها هذا اللبناني الذي جعل وادي قاديشا في نفسه اندفاع مياههِ وجلال الغابة التاريخية القائمة في جوارهِ?
حسنٌ جدّاً.
إِذن نحن أمام رجل متمرد على أنظمة البشر. ومن جهة أخرى تراه يدافع عنها مفسرًا ما فيها من لبس وإشكال, مقررًا أنها أعراض ضرورية للسير نحو الجوهر المطلق, وهو واثق بذلك إلى حدِّ الارتياب في زوال هذه المدنية. فيقول قد (تكون المدنية الحاضرة عرضًا زائلاً).
إِنها عرضٌ زائل بلا (قد) وبلا ريب, لأنّ كل مُقبلٍ يسير إِلي الإدبار, وكل صرح يُدركهُ الخراب ليشاد غيرهُ على أنقاضهِ, وكل مدنية تنهارُ وتتلاشى لتقوم مقامها مدنيةٌ جديدة. (قد), (لو), (هل), (لكن), (لماذا), أهذه هي الكلمات التي ينصبُّ فيها غيظ المتمرّدين?
إِني أراها, على كل حال, متّفقةً تمام الاتفاق مع قول بطل (الأجنحة المتكسرة) عند ذكر الفراق الأخير (أخير في الرواية):
(وكم مرةٍ فكرت منذ تلك الليلة إِلى هذه الساعة بالنواميس النفسية التي جعلت سلمى تختار الموت بدلاً من الحياة. وكم مرة وضعت نبالة التضحية بجانب سعادة المتمردين لأري أيهما أجلّ وأجمل).
لنقفنَّ هنيهةً عند (سعادة المتمردين), فهي نقطة جوهرية. هو متمرد التمرُّدَ اللازم للشعور بتلك (السعادة) المفاجئة الفائضة على النفس إحساسًا جديدًا, وتأثيرًا لم تختبره من ذي قبل, وهزةً عجيبة تنبسطُ لها جوانب الكيان. هو أليف الحماسة مهبط الوحي, التي تطلبُ أبدًا تحريضًا حديثًا يمكِّنها من إِبداع أساليب مجهولة. وكما تتجاوبُ الأصوات والأنغام, وتأتلف الألوان والعطور في هيكل الطبيعة كذلك هي في هيكل الإنسان. ولكنها لا تفطنُ لها إِلا الأعصاب التي دوزنها التوتُّر والتيقُّظ, أعصابُ الشعراء والفنانين, لا سيما إِذا كانوا من الرمزيين. وجبران أفندي مع ما يرمي إِليه دوامًا من إِصلاح محسوس, ومع ما يبقي عليه من الحصافة والرزانة حتى في أوسع شوارده الشعرية, كثيرًا ما تراه في حالة الانجذاب لا يدرى أهو يستنشق الألحان, أو يسمع الألوان, أو يرقد على حزمة من متجمِّعات الأشعة, فينشد:
هل تحـممت بعطـر وتنشقـت بنـور
وشربت الفجر خمرا في كؤوس من أثير
فكيف لا يبحث مثل هذا المزاج عن خبرات غير مألوفة? وأي شيء أطرب للفنان من الضرب على اليد القوية التي سنَّت قوانينَ الاجتماع واصطلاحاته, لا سيما إِذا قاومت إحدى رغباته, أو قاسي بسببها العذاب يومًا? هل تألَّم مؤلف (المواكب) من تلك القيود? إنه تألم من بعضها, بلا شك, بفكره وبقلبه وبكبريائه. تألم شديدًا حتى بلغ الدرجة الابتدائية من سلم الحكمة حيث يتعلم المرء الجرأة والخروج على ما يعذِّبه. ولكن هذه القيود ضرورية له ميدانًا تبرز فيه قوَّته ويمرِّن عليها مجهوداته, فهو لا يُبدلها بألف حريةٍ معًا, إنه في حاجة إِلي ما تقدمه إِليه من ضغط ومقاومة يصيبان منه خفايا النفس فينبثق في جوانبها ينبوع الوحي والإلهام.
نشوة الأحلام, نشوة الوحي, إِن هذا الفنان ليستخدم كل شيءٍ للحصول عليها, يستخدم حتى أشرف العواطف وأرفعها حيث يقول:
والحب في الروح لا في الجسم نعرفه كالخمر للوحي لا للسكر ينعصر
وما نشوة الوحي, ونشوة العاطفة, ومجد الفكر والعمل المتقن إِلاّ سبل مؤدية إِلي تلك الكعبة التي ما برحت الإنسانية سائرة نحوها منذ فجر الوجود, والتي يحنُّ إِليها الشاعر ويُحسن التعبير عنها أكثر من غيره, ألا وهي السعادة. هو يحدّق في موكب السعادة حينًا فتعود إِليه ذكرى كل ما حسبه سعادة في الماضي, فيقلب شفته لما أبقت له من مرارة ومللٍ ويرسل هذه الحكمة الرائعة:
وما السعادة في الدنيا سوى شبح يرجى فإن صار جسما مله البشر
لم يسعد الناس إلا في تشوقهم إلى المنيع فإن صاروا به فتروا
فى (المواكب) كما في (المجنون) أكاد أتبيّن تأثير نيتشه, وإِن كانت بسمة التهكم الفني الدقيق التي نراها عند جبران أفندي لن تشبه أبدا ضحكة نيتشه ذات الجلبة الضخمة المزعجة. إن الشاعر السوري فنّان في كل شيء ونظرة واحدة إِلي كتاب (المواكب) تكفي لتعرُّف ما عنده من ذوقٍ بسيط أنيق. ولا تقيم المرارة لديه طويلاً لأنه يعود إِلي ذكر الطبيعة وحبها, وينشد مطربًا حزنه ولهفه بغُنْيَةٍ عذبة:
ليس حزن النفس إلا ظل وهم لا يدوم
وغيوم النفس تبدو من ثناياها النجوم
ولكني أود أن أضيف مغالطة أخرى, وهي هذه: أعتقد أن ذاتية الكاتب لم تدرك بعد استعدادها الأقصى ولم تقف إِلي الآن على ذروة اقتدارها, سواء في التصوير والكتابة ما زال جبران أفندي خليل جبران متسلقًا كتف الجبل الذي قيدته الأقدار بالتصعد عليه. وسيتابع الصعود (متمردًا), ما دام كلفًا بهذا النعت, وراء ستار الهجو والتهكم بالرموز والأمثال, ولكنه سيصل يومًا إِلي القمة فنسمع منه عندئذ أجمل أنغامه, ونلمح أسمى هيئة من نفسه الغنية السنية التي تسطع في أرجائها الأضواء وترعى في جوانبها الأظلال.
قلت (الأظلال) وأعني تلك الأظلال التي (تبدو من ثناياها النجوم) كما يبدو معنى الامتثال والاستسلام من خلال ضجيج التمرد والعصيان
مجلة (الهلال), يوليه / تموز 1919