فضل الآداب
يرجع أثر الصناعة والتجارة في تكوين العلائق الاجتماعية إلى عهد أبعد كثيرًا من يوم وطِئ الفينيقيون الشاطئ الإغريقي للمرة الأولى, وربما انتهى بنا إلى فجر تاريخ العمران, ولولا تلك العلائق ما اختلطت الأقوام, ولا تمازجت الأجناس, ولا تكوّنت المدنية, ولظلت الجماعات في وحدتها الإثنغرافية, وانقطاعها الحيويّ, بعيدة بعضها عن بعض. ولو كان ذلك لفنيت العشائر وانقرض النوعُ في زمنٍ قصير.
وجدت الصناعة والتجارة فزاد تبادلها في ثروة الجمهور, وجلب الرخاء فتعدَّدت مُثلُ الإنتاج, وتوافَرت للأفراد سهولة المعيشة.
إنما الشعوب كالأفراد لا يتفاهمون إِلا بالتآلف الفكري, ولا يتوحدون بغير التمازج الروحي. متاعُ المصانع ونتاج المعامل يحفظ أبدًا طابع الشعب الذي ابتكرهُ أو عالجه. ولكنّ أهل الفكر والعبقرية لا يُسبَكون في قالب ولا يحملون طابعًا, بل يخصون الإنسانية بأسرها, ويخدمون الجميع بلا حصر ولا استثناء. يتكلمون ويعملون ويكتبون, وسواء هم أفصحوا عن نظراتهم ومشاعرهم باليونانية واللاتينية أو العربية والهندية, فإنما هم يترجمون عن حاجات بشرية, ورغبات إنسانية تجمهرت في نفوسهم الكبيرة الحساسة.
ما غرض الأدب والبيان سوى التعبير عن الفكر والعاطفة كلامًا وكتابةً, ونقل صور ذهنية خفية إلى عالم الاطلاع والاستعراض. يفضي كل شعب بسرائر ضميره على أسلوب خاص, ويطلق شِعرًا ونثرًا ما كمن فيهِ من كآبة وحنين إلى مثلٍ أعلى هو قدوته وقبلته, حتى إذا ما أودع الكتب ما يسميه آدابًا وفلسفة وعلمًا, وبعث بتلك الكتب إلى البلاد القصية, فكأنما هو ينفّذ رسالة حُبٍّ وتنبيه وتفاهم إلى إخوته وأخواته بالحياة والإنسانية, بل كأنما هو يريهم من نفوسهم وجهًا جديدًا وشكلاً طريفًا. ليست الكتب لمؤلفيها, ولا الآداب لموجديها بل هي إرث من تطلبها وملك من انتفع بها. وليس الفرد في ذاته أهلاً للإعجاب, إنما هي الإنسانية عجيبة بما تلازب فيها من مدهش القوى والممكنات; الإنسانية وحدها عظيمةٌ بما تأتيه من الأعمال الباهرات.
أما النوابغ فأفراد اختارتهم الحياة لإدراك وسط يعيشون فيه والوصول إلى أقصى رغائبه وألبس نزعاتهِ, فهم بذلك أقرب من سواهم إلى أغوار الروح الإنسانية, وأسرع فهمًا لحركاتها وخصائصها, وأبرع حذقًا في التعبير عنها, وتقوم كل أهميتهم باتصالهم المتين بالفكر الشامل الدائم الإبداع, وكأن قلب الإنسانية العظيم ينبض الوقت بعد الوقت في قلوبهم الصغيرة, فيظلُّ صدى نبضاته مترددًا في صرير أقلامهم. لذلك كانوا مازجين دماءَهم بدماءِ الأنام, خالطين أنفاسهم بأنفاس بني الإنسان أجمعين, شاعرين مع مراتب الخليقة بأسرها بالحاجة والتعاون, والتوحد والتغاير, والحزن, والبكاء, والسمو والحقارة, بل شاعرين باقتدار الكون وعجزه المتتابع في كيانهم, ولذلك كانوا أنفع من الجنود وأحسن عائدة.
السيف قاهر معاقب, أما الفكر فمثقف ملطف. السيف يغزو الممالك داحرًا كتائب وجحافل, ويشهر الحروب واضعًا بين الإنسان والإنسان جدران حقدٍ كثيفة; أما الفكر فلسيفهِ خفة الهواء, ولطف النسيم, وهول الصواعق! وبذلك السيف الذي يُدعى (القلم) يُشهر الفكر حربه المجيدة, حرب الفرد على الجمهور, حرب الروح على المادة, حرب الحكمة على الزهو, حرب الحصافة على الغرور, حرب العدل على الطغيان, حرب الكرامة على التطفل, حرب الحقّ والواجب على التهجم والخمول, بل حرب العمل والصلاح السائرة بالإنسان نحو صروح الارتقاء والضياء.
بالقلم الذي هو أداة البيان, وبالقلم وحده, يبرز كل شعب آدابه أي عصير روحه, وهو عصير جزءٍ من روح الإنسانية, يتنبّه لنفسه باتصاله بقلب الإنسانية وفكرها, فيلفتنا إلى أنفسنا, وما كمن فيها من قوة إذ يصلنا بفكر الإنسانية وقلبها, لأن كلَّ نفس فردية قيثارةٌ ذات أوتار تجاوب كلَّ قرار, وتهتز لتعزف متعاونة مع جوق النفوس المهيب. فإن كان ثمة مشاهد بهاءٍ خفيت علينا, أو أناشيد طرب لم تطرق سمعنا, أو لجج إحساس لم نذهب في غورها, ما فتحنا إدراكنا للتأثيرات الآتية من الغرباء, أفرادًا كانوا أم جماعات, إلاّ اتسع الأُفق أمامنا, فأقبلنا على اكتناه معاني الحياة, ودنونا من خفايا السناء ومكنونات القوى. وليس أقدر في التقريب بين الشعوب من الإلمام بألسنتها, فنصير كأننا هي أيضًا بعد أنْ كنا نحن فحسبُ. وبهذا الازدواج أو التضاعف تزدوج أو تتضاعف منا الخبرة والفطانة والإدراك; وإلا فقل إننا نتسع فهمًا, ونكبر روحًا, ونسمو مطالب, لأننا أصبحنا جماعة في واحد. ألم يقل الشاعر العربي: إن كل لسان بالحقيقة إنسان?
نعم; إذا عرف امرؤٌ لغة شعب تلاشى في نظره ما يحيط بذلك الشعب من غرابة وإبهام, وكلما تقدم في تفهم الآخرين انجلي له تشابه النفوس للنفوس, وعثر على ما بين الناس من نسب الحاجات والنزعات والآلام والمسرّات, إذْ ذاك يعلم أنّ الإنسانية واحدة في كل زمان ومكان. ورغم الفروق والحواجز والعادات والاصطلاحات, ورغم اختلاف اللغة وتقاتل المطامع لا تلبث أنْ تظهر له بالتدريج أخوّة الإنسان للإنسان
من كتاب (كلمات وإشارات), 1922