أين وطني؟
عندما ذاعت أسماء الوطنيات,
كتبت اسم وطني ووضعت عليه شفتيّ أقبّلهُ;
وأحصيت آلامه مفاخرة بأن لي كذوي الأوطان وطنًا;
ثم جاء دور الشرح والتفصيل فألممت بالمشاكل التي لا تحلّ;
وحنيت جبهتي وأنشأت أفكر;
وما لبث أن أنقلب التفكر فىَّ شعورًا;
فشعرت بانسحاق عميق يُذِلّني;
لأنى, دون سواي, تلك التي لا وطن لها.
وإذ تمرُّ مواكب الأمم المظلومة منكّسة أعلامها وراء نعوش الشهداء; وهتاف الحرية والاستقلال يتغلب على أنين الثكل والتفجّع منها, أعتز لأني ابنة شعب في حالة التكون والارتفاع, لا تابعة شعب تكوّن وارتفع ولم يبق أمامه سوى الانحدار.
ولكنّ الشعوب تهمس همسًا يطرق مسمعي: فهؤلاء يقولون (أنتِ لستِ منّا لأنك من طائفة أخرى).. ويقول أولئك: (أنتِ لستِ منا لأنك من جنس آخر).
فلماذا أكون, دون سواي, تلك التي لا وطن لها?
***
ولدتُ في بلد, وأبي من بلد, وأمي من بلد, وسكني في بلد, وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد, فلأي هذه البلدان أنتمي? وعن أي هذه البلدان أدافع?
كل أمة تحدّث عن عظمتها وفضلها على المدنية ونبلها في صيانة حقوق الضعفاء; فبأي الأمم أعجب?
وكل أمة - دون سواها - تحمي ذمار الحرية وتذود عن العدل والمساواة والإخاء; فعلى أي الأمم أتكل?
وكل دين - دون سواه - احتكر لأتباعه الشرف والفضيلة في الحياة, والسماء والألوهية بعد الممات; فأي الأديان أعتنق?
وكل حزب يدّعي الصدق والعصمة, وكل فرد صائب الرأي يضحِّي الخير الخاص للخير العام; فأي الأحزاب أصدِّق وأي الأفراد أتبع?
ما سمعت وصف بلاد إلاّ سعى إليها اشتياقي.
ولا حدّثت عن بسالة أمة وسؤددها إلا تمنيتها أمتي.
بنسيم وطني امتزج الوحي والنبوءات,
ومع أشعة الشمس فيه انتشرت صور الجمال,
فكانت له حياة وهّاجة متلظيّة وراء مظاهر الجمود والهجران وخيالات الآلهة تسيرُ أبدًا فيه متمهلة متأملة,
من القمم والأودية, من الصخور والينابيع, من الأحراج والمروج تتعالى معاني بلادي في الضحى, وعند الشفق تتكاملُ أرواحُ الأشياء وتتجمهر كأنها تتداول في إنشاء عوالم جديدة.
أحبُّّ عطور تربة الجدود ورائحة الأرض التي دغدغها المحراث منذ حين. أحب الحصى والأعشاب, وقطرات الماء الملتجئة إلى شقوق الأصلاد.
وأحب الأشجار ذات الظل الوارف أكانت محجوبة في أحشاء الوادي أم أسفرت مشرقة على البحر البعيد.
وأحب الطرق الوعرة المتوارية في قلب الغاب, وتلك المتلوية على أكتاف الجبال كالأفاعي البيضاء, وتلك السبل الطويلة الممتدة, الممتدة وكأن الغبار الذهبي منها ينتهي إلى قرص الشمس.
ولكن أيكفي أن نحب شيئًا ليصير لنا? وهكذا رغم حبي الأفيح أنا في وطني تلك الشريدة الطريدة لا وطن لها.
جرّبتُ من الوطنيات صنوفًا: وطنية الأفكار والأذواق والميول,
وتلك الوطنية القدسية المثلى: وطنية القلوب,
فوجدتُ في عالم المعنَى ما عرفته في عالم الحس.
إلاّ بقعة بعيدة تفرّدت فيها الصور وتسامت المعاني.
ثقّفنى أبناءُ وطنى, وأدبني أبناء الأوطان الأخرى,
وأسعدنى أبناء وطني وأسعدني الغرباءُ أيضًا,
ولا ميزة لأبناء وطني في أنهم أوسعوني إيلامًا,
فقد نالني من الغرباء أذى كثير:
فبأي الأقيسة أقيس أبناء الوطن?
ولماذا أكون أنا وحدي تلك التي لا تدري أين وطنها?
***
أيها السعداء ذوي الأهل والأوطان, عرّفوا لي سعادتكم وأشركوني فيها!
رضيتُ حينًا بأنه ليس للعلم والفلسفة والشعر والفن من وطن, أما اليوم فصرت أعلم أن للعالم والفيلسوف والشاعر والفنان وطنًا. صرت أعرف ضعف الإِنسان الذي إذا مال إلى النوم والراحة طلب مضجعًا ناعمًا لجسمه المضني لا مرجًا واسعًا يتناوله منه الحر والبرد, ولا بحرًا عرمرمًا تبتلعه منه اللجج.
إنى أعبد تفطّرك الصامت, أيها الفيلسوف القديم, أنت الذي بعد أن اكتشفت آيات الفكر وعجائبه, أرسلت زفرة كأنها شكوي الدهور فقلت: إنما أريد صديقًا لأموت لأجله.
وأنا أجثو الآن خاشعة أمام ذكرك مردّدة ما يشبه قولك: إنما أريد وطنًا لأموت لأجله - أو لأحيا به!
من كتاب ( ظلمات وأشعة ) , 1923