الاحتفال بالنبُوغ
حلمت فِى هذه المدينة أحلام الطفولة الأولى. ولما كنتُ هناك في وادي النيل أغمض عينيَّ لأستعيد ذكري فردوس طفولتي كنتُ أدرك أنَّ من عرف دمشق صغيرًا حفظ كيانُهُ من جمالها أثرًا ليس يمحى. ثم علَّلْتُ النفس بالعودة هذه السنة لأسمع هدير أنهارها, مُستأَنسةً بلطف أهلها, مراجعةً تاريخها الطويل في الشوارع والحجارة والأبنية, مستوحيةً في الأَخربة والآثار روح العظمة الأمويَّة ومجد صلاح الدين.
وها أنا ذا في دمشقٍ, أيها السادة والسيدات, فإذا بالمياه قد أضافت إلى حكايتها الدهرية حديثًا طريفًا. ها أنا ذا في دمشق وكأنَّ الأشجار تخبرني عما شهدتهُ السبلُ من تفجُّعٍ وعمَّا أظلَّتهُ الغصون من رجاء.
ها أناذا في دمشق وكأني أبصر في الأخربة والآثار روح العز القديم تتململُ فترى أعجوبة التجدُّد في الشعب الواحد المقيم في المكان الواحد. ها أناذا في المدينة الآرامية الكبرى, عاصمة الملوك والخلفاء والفاتحين, حاضرة هذه البلاد التاريخية وآية الجمال في الصحراء, ولكنني أشعر بأني, خصوصًا في دمشق الجديدة, في الفيحاء, الفتاة التي تستجمعُ قواها بعد الجراح والآلام, وتتحفز للنهوض والصعود نحو قمّة الارتقاء. ولئن تعاون الكرم منكم وحبّ تشجيع العلم في جعل هذا المساء لي عيدًا, فقد أريتمونى فيهِ رموزًا طالما تقتُ إلى حقيقتها.
ففي اتحاد الأندية أرى رمزًا لاتحاد الأمة. وفي ارتفاع صوت المرأة قرب صوت الرجل أرى ليلاً على تنبُّهِ الكرامة فيها واستعداد الرجل لمساعدتها والاعتراف بحقوقها. وفي اتفاق المحمدي والعيسوي على الترحيب بأُختٍ سوريّة آتية من بعيد, أرى عنوانًا لمحو فروق المذاهب ومتانة الوحدة القومية.
هذا مظهر من وطنيتكم السامية, وإنما هو الذي يوحي إليّ أن أخاطبكم بما يجول الساعة في نفوسكم: لكم عائلة فرقُوها بترقية المرأة وإصلاح الرجل. لكم صناعة وتجارة وزراعة فحسنوها ما استطعتم ولا تيأسوا أمام الفشل المهذّب. لكم ماض عظيمٌ فكونوا له أهلاً بتهيئة مستقبل عظيم. لكم فنٌّ شرقي, وروح شرقي, ولغة شرقية فحسنوها وروجوها - لا تعصبًا ولا تعنُّتًا - بل ليكون لكم أثر نفيس في متحف الثروة الإنسانية. لكم دين وعقيدة فأطلقوا الحرية فيهما بين الخالق والمخلوق, ودعوا المؤذنين والنواقيس ترفع نحو الخالق أنشودة الخلود, بينما أنتم ترددون أنشودة الحياة قائلين: الله أكبر ونحن أبناءُ قومية واحدة.
أودعكم مرة أخرى أيها السادة والسيدات. بالأمس كنت إذا ذكرت دمشق تصورتها طاقة خضراء وسط الصحراء يتخللها هدير الأنهار. أما الغد فإذا ذكرت فيهِ دمشق تصورتها تلك الطاقة الخضراء يتخللها هدير الأنهار وقد تجلَّي فوقها قلب دمشق الفتاة الذي خلتهُ الليلة يتأجَّج نارًا ويتألق نورًا; فلتحىَ دمشق الفتاة!
من كلمة في حفل بدمشق , 1922