أتعرف الشوق والحنين?
انقضى من الشتاء أكثره, وتململت الأرض لتستيقظ, واتضحت خطوط الأفق كأنما هو تلقّى من روح الخليقة هيئة ونظرة وإشارة, وسرت فيه اللواعج فإذا بقبته حافلة بحضور نفس عظيمة تهتز وتنبض وتشرئب إلى ناحية معينة باسطة ذراعيها في لهفة واستعطاف.
***
الفأس بيد الفلاح شقت قلب الأرض فتحركت فيها رواكد الحياة وفاحت رائحة البذور التي زرعت هنا موسمًا بعد موسم وأنتجت إلة تلو إلة,
وتقلبت فيها كوامن الألم الأبكم والكد المحتوم, وانتشر أريج الأزهار على سياج الأسوار وعبق شذا النبات والريحان في الحدائق وذاعت رائحة النيل الذي يجرف الأوحال المحسنة والتراب النفَّاح من أعالي السودان.
واشتعل لهيب الشمس فتضوعت رائحة النضج في الغصون.
وهتف النسيم العابر ينثر عطور الربوع القصية والأزهار المجهولة.
كل ما على الأرض يحدث عن عاطفة مركبة لا توصف ولا تحد, وجميع العطور والمشاهد والأصوات تولد الشوق والحنين.
***
هاك السور يقطع المسافة ويعلن حكمة القيود والحدود.
وبين البساتين المنسقة والرياض الغناء وأسراب النخيل تنتصب الصروح والقصور, وعلى جدرانها العارية ترقص أطياف الظل والنور.
وشريط النيل الأزرق منوع الأشكال في توزيعه الري والنعمة, فهو هنا يطوّق جزيرة, وهناك يدفق شلالاً, ويجري من بعد نهرًا تائقًا إلى البحر.
وتتلألأ وراءه الضفة الأخرى بارزة المنازل بين طاقات النضارة, وتحمل في أقصاها كتلة المدينة العظيمة تعلو فوقها قامات المآذن, ويخفرها جميعًا حصن صلاح الدين.
وتساندت وراءها الآكام الجرداء في ألوان باهتة من الصخر والرمل والتراب المتجمد.
وامتزجت في الجو كل أصباغ السماء وأذواب الياقوت والفضة والزمرد, مدرجة في مهاد من النور الفتي, كأنما نحن في الساعة الأولى إذ خرجت البرية مجلوّة من يد الباري.
كلّ ما هنا رؤي متجسدة متبلورة ترى ولا تدرك
أَخَبَرت الحنين الذي يحدثه مشهد ما يتحرك ويتغير كما يحدثه ما يبقى على جموده المملوء معنى وتصميمًا!
أَعَرفْتَ الشوق وقد ثار وفار.
وأطلق من وجدانك شخصًا مجهولاً منك يطمح في وجع وتفطّر إلى البعيد السحيق?
أَعَرفْتَه تنبهه المحسوسات, وتزكيه المدركات, وتؤججه الذكريات?
أَعَرفْتَه يرعى في كيانك فأنت روح تلوب, وصوت يلهج, ويد تلتمس, وجوانح تضطرم, وجنان يتسعر, وضلوع تتفجر?
***
إن أنت عرفت مرة الشوق والحنين, وشعرت بالانكماش الأليم يملأ صدرك غمًا وكربًا.
وإن أنت كنت مرة ضحية الكلاّبة التي تعض على القلب بنابها القاسي, وفريسة المطارق التي تطرق فيه بلا رحمة فتدغدغه وترضضه دون أن تقوى على تحطيمه وملاشاته,
إذن فاعلم أنك في تلك الساعة متمتع باستعداد الخالق القادر, تضطرم في فؤادك الشرارة التي سرقها الإنسان القديم من نادى الأرباب الأقدمين لأن هذا العالم انما هو ابن الصبابة والجوى,
وما برأ الباري هذه الأكوان إِلا عندما شاء عطفه أن يعرف الشوق والحنين
عن مجلة (الهلال), عدد مارس / آذار 1926